منهج هوسرل

يتعلق الأمر بالمنهج الظاهراتي أي المنهج الفينومينولوجي الذي يرتكز على مفهوم محدد للظاهرة أي "للفينومين". فهو يقصد بالظاهرة "المعنى الذي يدركه الشعور أو الوعي إدراكا مباشرا لتحويل هذا المعنى إلى ماهية".
وهكذا فهوسرل يرى أن أصناف الظواهر الثلاثة {أي: أ) الشيء المادي الموجود فعلا في الواقع، ب) الانطباعات الحسية أو الحدوسات الحسية، ب) ما يظهر لي من لون وشكل وصلابة... عن شيء ما،} أن هذه الأصناف ليست ظواهر لكنها تشكل أساسا لمفهوم الظاهرة.
ويميز هوسرل ما بين الواقعة والماهية: فمعرتنا بماهية شيء من الأشياء ليست معرفة تجريبية، لأننا لا نصل إلى معرفة ماهية شيء معين إلا بعد عزلنا لعناصره التجريبية المتمثلة في عنصر المكان والصفات الحسية، إضافة إلى عزل كل الصفات النفسية الذاتية من وجدان وانفعال وميولات.
فالماهية هي ظاهرة تجد أساسها في الإدراك الحسي لكنها تتجاوزه. كما أن الماهية تُدرك بحدس ذهني. فإذا كان الحدس التجريبي أو الإدراك الحسي وسيلة لإدراك الواقع، فإننا ندرك الماهية بالحدس الذهني. والحدس الذهني هو جُهد عقلي يبذله الفكر في عملية الانتباه والاهتمام بموضوعات تفكيره، ويخلصها من خصائصها التجريبية. وعملية معرفة ماهية الشيء يسميها هوسرل بالاختزال الماهوي أو الرد الماهوي، أي عملية الانتقال من العنصر التجريبي لفهم طبيعته الأساسية.
وترتكز فلسفة هوسرل على الكوجيطو (الفكرة المستعارة من ديكارت). ويعتبر الكوجيطو أساسا للأسباب التالية:
- الكوجيطو مبدأ يؤسس كل تجربة
- لا يقوم الكوجيطو على أساس آخر، وهذا يضع حدا لعملية التراجع اللامتناهية للوراء بحثا عن أساس للأساس...
- هو مبدأ كوني يخص جميع الناس.
وهوسرل يقبل بوجود العالم، ولا يشك في وجوده وإنما يعلق الحكم على وجوده أو عدم وجوده. أي أنه يضع وجود العالم بين قوسين (الإيبوكي). وهذا الاختزال الفينومينولوجي الذي يتم عبر تعليق الحكم يضعنا وجها لوجه أما الوعي بالعالم، وبالتالي البحث عن ماهية الوعي في مواجهة العالم.
ويكشف تعليق الحكم عن بنية أساسية للفينومينولوجيا وهي القصدية. وهي الخاصية الأساسية التي يتصف بها الوعي وهي كونه موجه دوما نحو موضوعه. فالقصدية هي الوعي بشيء ما. فنمط وجود الوعي يختلف عن نمط وجود الأشياء المادية. لذلك فبنية القصدية تميز ما هو نفسي عما هو مادي. فليس الوعي مجالا مغلقا توضع فيه الصور والإدراكات الحسية، وإنما الوعي هو قصدية منتجة للمعنى، فإدراك شجرة على سبيل المثال ليس هو تخيلها. فللقصدية دور هام في عملية الإدراك: فنحن لا ندرك إلا مظاهر الأشياء، أي ما يسميه هوسرل الخطاطات العامة للأشياء، الخطوط العريضة أو الخطاطات المختزلة للأشياء والتي تتطلب وجود قانون يوحدها. والقصدية تمكن من تقديم المعطيات الناقصة بشكل استباقي وتسمح للذهن بملء الفراغات التي تسبب فيها الإدراك، وعملية التوحيد والاستباق في تقديم المعطيات الناقصة تشكل الموضوع المكتمل للوعي.
وعلى سبيل المثال: لما ننظر إلى شخص معين انطلاقا من جزء فقط من جسمه، لما ننظر إليه من ظهره فقط أو من جانب من جانبيه، بحيث تخفي عنا عملية الإدراك المعطيات الأخرى، فلا يتم التوقف عند الجزء الذي أدركناه، وإنما تقدم القصدية الخصائص الأخرى التي أخفاها الإدراك. فالقصدية تقدم قانونا يقوم بتوحيد الخطاطات العامة التي وفرها الإدراك والمعطيات الضرورية الأخرى التي أخفاها الإدراك لاكتمال الموضوع في الوعي.

ويمكن تقديم منهج هوسرل في الخطوات التالية:
1- عدم اتخاذ أي حكم بصدد الأشياء المادية الموجودة خارج الذات، أي خارج الشعور أو الوعي، قبل أن تتم عملية الإدراك. أي أنه علينا قبل عملية الإدراك وضع تلك الأشياء بين قوسين، ووضعها أيضا خارج مجال انتباهنا. وبتعبير آخر، يجب البدء بقضايا موضوعية نقبلها جميعا دون أدنى شك، لكي نؤسس معرفة يقينية. ولتحقيق هذا الأمر لا بد من البعد عما هو تجريبي والتخلص من أي افتراضات سابقة أو أحكام مسبقة مهما بدت لنا راسخة. كما لا ينبغي أن نبحث عن اليقين في القضايا التجريبية لأنها مجرد قضايا احتمالية.
2- البحث عن القضايا اليقينية في الشعور أو الذات، لأنني لا أشك في وجود خبرات الذات أثناء شعوري بها، وهي خبرات خالية من الافتراضات والأحكام المسبقة، وأفكار الشعور هي معطيات مباشرة وهي الظواهر بالمعنى الدقيق للكلمة. أي بناء الماهية في الشعور، والانطلاق من الداخل وليس من الخارج، لان الشعور أصبح ذاتا وموضوعا في نفس الوقت.
3- القيام بعملية تحليل أفعال الشعور باعتبارها موجهة نحو مواضيعها، تحكمها قصدية نحوها. فلا وجود لفعل ليس له موضوع، كما أن كل فعل هو فعل موجه نحو موضوع معين.
4- وصف الماهيات وصفا يوضح ويحلل دون الاعتماد على أي معطيات مسبقة. فماهية شيء ما هي المعرفة الضرورية بذلك الشيء. كما أن ماهية الشعور هي دوما شعور بشيء ما. وبتعبير آخر القيام بعملية إيضاح حتى لا تختلط الماهيات، لأن المنهج الظاهراتي هو أيضا منهج يتوخى الإيضاح.

تم عمل هذا الموقع بواسطة